فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}.
لمّا طرحهم في متاهات الغُربة لم يرضَ إلاَّ بأن ظلَّلَهُم، وبلبسة الكفايات جَلَّلَهُم، وعن تكلف التكسُّب أغناهم، وبجميل صنعه فيما احتاجوا إليه تولاَّهم؛ فلا شُعُورُهم كانت تَطُول، ولا أظفارهم كانت تنبُت، ولا ثيابهم كانت تتسِخ، ولا شعاعُ الشمس عليهم كان ينبسط. وكذلك سُنَّتُه لمن حال بينه وبين اختياره، يكون ما يختاره سبحانه له خيرًا مما يختاره لنفسه. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام}.
فيه ثمان مسائل.
الأولى: قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام} أي جعلناه عليكم كالظُّلّة.
والغمام جمع غمامة، كسحابة وسحاب؛ قاله الأخفش سعيد.
قال الفراء: ويجوز غمائم وهي السحاب؛ لأنها تغمّ السماء أي تسترها؛ وكل مغطّى فهو مغموم؛ ومنه المغموم على عقله.
وغُمّ الهلال إذا غطّاه الغَيْم.
والغين مثل الغيم؛ ومنه قوله عليه السلام: «إنه ليُغان على قلبي» قال صاحب العين: غِين عليه: غطّى عليه.
والغَيْن: شجر ملتّف.
وقال السُّدّي: الغمام السحاب الأبيض.
وفعل هذا بهم ليقيهم حرّ الشمس نهارًا، وينجلي في آخره ليستضيئوا بالقمر ليلًا.
وذكر المفسرون أن هذا جرى في التِّيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبّارين وقتالهم؛ وقالوا لموسى: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا} [المائدة: 24].
فعوقبوا في ذلك الفَحْصِ أربعين سنة يتيهون في خمسة فراسخ أو ستة.
رُوي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيث كانوا بكرة أمس.
وإذ كانوا بأجمعهم في التِّيه قالوا لموسى: مَن لنا بالطعام! فأنزل الله عليهم المنّ والسّلْوَى.
قالوا: مَن لنا من حَرّ الشمس! فظلّل عليهم الغمام.
قالوا: فبم نستصبح! فضرب لهم عمود نور في وسط محلّتهم.
وذكر مكيّ: عمود من نار.
قالوا: من لنا بالماء! فأمر موسى بضرب الحجر.
قالوا: من لنا باللباس! فأعطوا؛ ألاّ يبلى لهم ثوب ولا يَخْلَق ولا يدرَن؛ وأن تنمو صغارها حسب نموّ الصبيان. والله أعلم.
الثانية: قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} اختُلِف في المنّ ما هو وتعيينه على أقوال؛ فقيل: التّرْنجبِين بتشديد الراء وتسكين النون، ذكره النحاس، ويقال: الطّرْنجبِين بالطاء وعلى هذا أكثر المفسرين.
وقيل: صمغة حُلوة.
وقيل عسل: وقيل شراب حلو.
وقيل: خبز الرُّقاق؛ عن وهب بن مُنَبّه.
وقيل: {المنّ} مصدر يعم جميع ما منّ الله به على عباده من غير تعب ولا زرع؛ ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل: «الكمأة من المنّ الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين» وفي رواية: «من المنّ الذي أنزل الله على موسى» رواه مسلم.
قال علماؤنا: وهذا الحديث يدل على أن الكمأة مما أنزل الله على بني إسرائيل؛ أي مما خلقه الله لهم في التِّيه.
قال أبو عبيد: إنما شبهها بالمنّ لأنه لا مؤونة فيها ببذر ولا سقي ولا علاج؛ فهي منه.
أي مِن جنس مَنّ بني إسرائيل في أنه كان دون تكلُّف.
روي أنه كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج؛ فيأخذ الرجل ما يكفيه ليومه، فإن ادخر منه شيئًا فسد عليه، إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم؛ لأن يوم السبت يوم عبادة، وما كان ينزل عليهم يوم السبت شيء.
الثالثة: لما نصّ عليه السلام على أن: «ماء الكمأة شفاء للعين» قال بعض أهل العلم بالطب: إما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة فتستعمل بنفسها مفردة، وإما لغير ذلك فمركبة مع غيرها.
وذهب أبو هريرة رضي الله عنه إلى استعمالها بحتًا في جميع مرض العين.
وهذا كما استعمل أبو وَجْزَة العسلَ في جميع الأمراض كلّها حتى في الكحل، على ما يأتي بيانه في سورة النحل إن شاء الله تعالى.
وقال أهل اللغة: الكمء واحد، وكمآن اثنان، وأكمؤ ثلاثة، فإذا زادوا قالوا: كمأة بالتاء على عكس شجرة وشجر.
والمنّ اسم جنس لا واحد له من لفظه؛ مثل الخير والشر؛ قاله الأخفش.
الرابعة: قوله تعالى: {والسلوى} اختُلِف في السَّلْوَى، فقيل: هو السُّمَانَى بعينه؛ قاله الضحاك.
قال ابن عطية: السَّلْوَى طير بإجماع المفسرين؛ وقد غَلِط الهُذَلي فقال:
وقاسمها بالله جَهْدًا لأَنْتُمُ ** ألذّ من السّلوَى إذا ما نَشُورُهَا

ظنّ السلوى العسل.
قلت: ما ادعاه من الإجماع لا يصح؛ وقد قال المؤرّج أحد علماء اللغة والتفسير: إنه العسل؛ واستدل ببيت الهذليّ، وذكر أنه كذلك بلغة كنانة؛ سُمّيَ به لأنه يسلى به؛ ومنه عين السُّلوان؛ وأنشد:
لو أشرب السُّلوان ما سَلِيتُ ** ما بي غنىً عنكِ وإن غَنِيتُ

وقال الجوهري: والسلوى العسل؛ وذكر بيت الهُذَليّ:
ألذّ من السَّلْوَى إذا ما نَشُورُهَا

ولم يذكر غلطا.
والسُّلوانة بالضم: خرزة كانوا يقولون إذا صُبّ عليها ماء المطر فشربه العاشق سلا؛ قال:
شربتُ على سُلوانةٍ ماءَ مُزْنةٍ ** فلا وجديد العيشِ يا مَيّ ما أسْلُو

واسم ذلك الماء السُّلوان.
وقال بعضهم: السلوان دواء يُسقاه الحزين فيسلو؛ والأطباء يسمونه المُفَرِّح.
يقال: سَلِيت وسلوتْ؛ لغتان.
وهو في سُلوة من العيش، أي في رغد؛ عن أبي زيد.
الخامسة: واختلف في السَّلْوَى هل هو جمع أو مفرد؛ فقال الأخفش: جمع لا واحد له من لفظه؛ مثل الخير والشر؛ وهو يشبه أن يكون واحده سَلْوَى مثل جماعته؛ كما قالوا: دِفْلَى للواحد والجماعة، وسُمَانَى وشُكاعَى في الواحد والجميع.
وقال الخليل: واحده سَلواة؛ وأنشد:
وإني لتعروني لذكرك هزةٌ ** كما انتفض السَّلواة من بلل القطر

وقال الكسائي: السَّلْوَى واحدة، وجمعه سلاوي.
السادسة: {السَّلْوَى} عطفٌ على {المنّ}، ولم يظهر فيه الإعراب، لأنه مقصور.
ووجب هذا في المقصور كله؛ لأنه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف.
قال الخليل: والألف حرف هوائي لا مستقرّ له؛ فأشبه الحركة فاستحالت حركته.
وقال الفرّاء: لو حرّكت الألف صارت همزة.
السابعة: قوله تعالى: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} كلوا فيه حذف، تقديره وقلنا كلوا؛ فحذف اختصارًا لدلالة الظاهر عليه.
والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ.
الثامنة: قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا} يقدّر قبله فعصوا ولم يقابلوا النّعم بالشكر.
{ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لمقابلتهم النعم بالمعاصي. اهـ.

.من فوائد الماوردى في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله عز وجل: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} والغمام: هو ما غَمَّ السماء، فغطَّاها من سحاب وقتام، وكلُّ مُغَطٍّ فهُو غمام، ومنه: غُمَّ الهلال، أي غطاه الغَيْمُ.
وفي الغمام الذي ظلله الله عليهم تأويلان:
أحدهما: أنه السحابة، وهو قول ابن عباس.
والثاني: أنه الذي أتى الملائكة في يوم بدر، مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ منَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] وهذا قول مجاهد.
قوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ والسَّلْوَى} فيه سبعة أقاويل:
أحدها: أن المنَّ ما سقط على الشجر فيأكله الناس، وهو قول ابن عباس.
والثاني: أن المنَّ صمغة، وهو قول مجاهد.
والثالث: أن المنَّ شرابٌ، كان ينزل عليهم يشربونه بعد مزجِهِ بالماء، وهو قول الربيع بن أنس.
والرابع: أن المنَّ عسل، كان ينزل عليهم، وهو قول ابن زيدٍ.
والخامس: أن المن الخبز الرقاق، هو قول وهب.
والسادس: أنه الزنجبيل، وهو قول السدي.
والسابع: أنه الترنجين.
وفي السلوى قولان:
أحدهما: أنه السماني.
والثاني: أنه طائر يشبه السماني كانت تحشره عليهم الريح الجنوب، وهذا قول ابن عباس، واشتقاقه من السلو، كأنَّه مُسَلِّي عن غيره.
قال ابن جريج: كان الرجل منهم إن أخذ من المنِّ والسلوى زيادة على طعام يوم واحدٍ فسد، إلا يومَ الجمعة، فإنهم كانوا إذا أخذوا طعامَ يومَيْنِ لم يفسد.
وفي قوله عز وجل: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثلاثة تأويلاتٍ:
أحدها: الشَّهيَّات اللذيذة.
والثاني: أنه الحلال.
والثالث: أنها المباح. اهـ.

.من فوائد الخازن في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله عز وجل: {وظللنا عليكم الغمام} يعني في التيه يقيكم حر الشمس، وذلك أنه لم يكن لهم في التيه شيء يسترهم ولا يستظلون به فشكوا إلى موسى فأرسل الله غمامًا أبيض رقيقًا يسترهم من الشمس وجعل لهم عمودًا من نور يضيء لهم الليل إذا لم يكن قمر {وأنزلنا عليكم المن والسلوى} أي في التيه الأكثرون على أن المن هو الترنجبين وقيل: هو شيء كالصمغ يقع على الشجر طعمه كالشهد.
وقال وهب: هو الخبز الرقاق، وأصل المن هو ما يمن الله به من غير تعب ق عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكماة من المن وماؤها شفاء للعين» ومعنى الحديث أن الكمأة شيء أنبته الله من غير سعي أحد ولا مؤنة وهو بمنزلة المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل، وقوله: وماؤها شفاء للعين معناه أن يخلط مع الأدوية فينتفع به لا أنه يقطر ماؤها بحتًا في العين وقيل: إن تقطيره في العين ينفع لكن لوجع مخصوص، وليس يوافق كل وجع العين وكان هذا المن ينزل على أشجارهم في كل ليلة من وقت السحر إلى طلوع الشمس، كالثلج لكل إنسان صاع فقالوا: يا موسى قد قتلنا هذا المن بحلاوته، فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم فأرسل الله عليهم السلوى، وهو طائر يشبه السماني وقيل هو السماني بعينه فكان الرجل يأخذ ما يكفيه يومًا وليلة، فإذا كان يوم الجمعة يأخذ ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت شيء {كلوا} أي وقلنا لهم كلوا {من طيبات} أي حلالات {ما رزقناكم} أي تدخروا لغد فخالفوا وادخروا فدود وفسد، فقطع الله عنهم ذلك ق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر» قوله: لم يخنز اللحم لم ينتن ولم يتغير {وما ظلمونا} أي وما بخسوا حقنا {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} يعني بأخذهم أكثر مما حولهم فاستحقوا بذلك عذابي وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة ولا تعب في الدنيا ولا حساب في العقبى. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{وظللنا عليكم الغمام} الغمام: مفعول على إسقاط حرف الجرّ، أي بالغمام، كما تقول: ظللت على فلان بالرداء، أو مفعول به لا على إسقاط الحرف، ويكون المعنى جعلناه عليكم ظللًا.
فعلى هذا الوجه الثاني يكون فعل فيه، يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه كقولهم: عدّلت زيدًا، أي جعلته عدلًا، فكذلك هذا معناه: جعلنا الغمام عليكم ظلة، وعلى الوجه الأول تكون فعل فيه بمعنى أفعل، فيكون التضعيف أصله للتعدية، ثم ضمن معنى فعل يعدى بعلى، فكان الأصل: وظللناكم، أي أظللناكم بالغمام، نحو ما ورد في الحديث: «سبعة يظلهم الله في ظله»، ثم ضمن ظلل معنى كلل أو شبهة مما يمكن تعديته بعلى، فعداه بعلى.
وقد تقدم ذكر معاني فعل، وليس المعنى على ما يقتضيه ظاهر اللفظ، إذ ظاهره يقتضي أن الغمام ظلل علينا، فيكون قد جعل على الغمام شيء يكون ظلة للغمام، وليس كذلك، بل المعنى، والله أعلم، ما ذكره المفسرون.
وقد تقدّم تفسير الغمام، وقيل: إنه الغمام الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر، وهو الذي تأتي فيه ملائكة الرحمن، وهو المشار إليه بقوله: {في ظلل من الغمام والملائكة} وليس بغمام حقيقة، وإنما سمي غمامًا لكونه يشبه الغمام.
وقيل: الذين ظلّل عليهم الغمام بعض بني إسرائيل، وكان الله قد أجرى العادة في بني إسرائيل أن من عبد الله ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنبًا أظلّته غمامة.
وحكي أن شخصًا عبد ثلاثين سنة فلم تظله غمامة، فجاء إلى أصحاب الغمائم فذكر لهم ذلك فقالوا: لعلك أحدثت ذنبًا، فقال: لا أعلم شيئًا إلا أني رفعت طرفي إلى السماء وأعدته بغير فكر، فقالوا له: ذلك ذنبك، وكانت فيهم جماعة يسمون أصحاب الغمائم، فامتنّ الله عليهم بكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة الباهرة.
والمكان الذي أظلتهم فيه الغمامة كان في التيه بين الشام ومصر لما شكوا حر الشمس، وسيأتي بيان ذلك في قصتهم.
وقيل: أرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل، وقعوا فيها حين خرجوا من البحر، فأظلهم الله بالغمام، ووقاهم حرّ الشمس.
{وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى} المنّ: اسم جنس لا واحد له من لفظه.
وفي المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل أقوال: ما يسقط على الشجر أحلى من الشهد وأبيض من الثلج، وهو قول ابن عباس والشعبي، أو صمغة طيبة حلوة، وهو قول مجاهد؛ أو شراب كان ينزل عليهم يشربونه بعد مزجه بالماء، وهو قول الرّبيع أبن أنس وأبي العالية؛ أو عسل كان ينزل عليهم، وهو قول ابن زيد؛ أو الرقاق المتخذ من الذرة أو من النقي، وهو قول وهب؛ أو الزنجبيل، وهو قول السدّي، أو الترنجبين، وعليه أكثر المفسرين؛ أو عسل حامض، قاله عمرو بن عيسى؛ أو جميع ما منّ الله به عليهم في التيه وجاءهم عفوًا من غير تعب، قاله الزّجاج، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: «الكمأة من المنّ الذي منّ الله به على بني إسرائيل» وفي رواية: على موسى.
وفي السلوى الذي أنزله الله على بني إسرائيل أقوال: طائر يشبه السماني، أو هو السماني نفسه، أو طيور حمر بعث الله بها سحابة فمطرت في عرض ميل وطول رمح في السماء بعضه على بعض، قاله أبو العالية ومقاتل؛ أو طير يكون بالهند أكبر من العصفور، قاله عكرمة؛ أو طير سمين مثل الحمام؛ أو العسل بلغة كنانة، وكانت تأتيهم السلوى من جهة السماء، فيختارون منها السمين ويتركون الهزيل؛ وقيل: كانت ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي.
وقيل: كانت تنزل على الشجر فينطبخ نصفها وينشوي نصفها.
وكان المنّ ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والسلوى بكرة وعشيًا، وقيل: دائمًا، وقيل: كلما أحبوا.
وقد ذكر المفسرون حكايات في التظليل ونزول المنّ والسلوى، وتظافرت أقاويلهم أن ذلك كان في فحص التيه، وستأتي قصته في سورة المائدة، إن شاء الله تعالى، وأنهم قالوا: من لنا من حراك الشمس؟ فظلل عليهم الغمام، وقالوا: من لنا بالطعام؟ فأنزل الله عليهم المن والسلوى، وقالوا: من لنا بالماء؟ فأمر الله موسى بضرب الحجر، وهذه دل عليها القرآن.
وزيد في تلك الحكايات أنهم قالوا: بم نستصبح؟ فضرب لهم عمود من نور في وسط محلتهم، وقيل: من نار، وقالوا: من لنا باللباس؟ فأعطوا أن لا يبلى لهم ثوب، ولا يخلق، ولا يدرن، وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان.
{كلوا}: أمر إباحة وإذن كقوله: {فاصطادوا} {فانتشروا في الأرض} وذلك على قول من قال: إن الأصل في الأشياء الحظر، أو دوموا على الأكل على قول من قال الأصل فيها الإباحة، وههنا قول محذوف، أي وقلنا: كلوا، والقول يحذف كثيرًا ويبقى المقول، وذلك لفهم المعنى، ومنه: أكفرتم؟ أي فيقال: أكفرتم؟ وحذف المقول وإبقاء القول قليل، وذلك أيضًا لفهم المعنى، قال الشاعر:
لنحن الألى قلتم فأنى ملئتم ** برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا

التقدير: قلتم نقاتلهم.
{من طيبات}: من: للتبعيض لأن المن والسلوى بعض الطيبات، وأبعد من ذهب إلى أنها زائدة، ولا يتخرج ذلك إلا على قول الأخفش، وأبعد من هذا قول من زعم أنها للجنس، لأن التي للجنس في إثباتها خلاف، ولابد أن يكون قبلها ما يصلح أن يقدر بعده موصول يكون صفة له.
وقول من زعم أنها للبدل، إذ هو معنى مختلف في إثباته، ولم يدع إليه هنا ما يرجح ذلك.
والطيبات هنا قيل: الحلال، وقيل: اللذيذ المشتهى.
ومن زعم أن هذا على حذف مضاف، وهو كلوا من عوض طيبات ما رزقناكم، فقوله ضعيف، عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة بالمن والسلوى، فكانا بدلًا من الطيبات.
وقد استنبط بعضهم من قوله: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل، بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك، وهو قول.
وقيل: يملك بالوضع فقط، وقيل: بالأخذ والتناول، وقيل: لا يملك بحال، بل ينتفع به وهو على ملك المالك.
وما في قوله: {ما رزقناكم} موصولة، والعائد محذوف، أي ما رزقناكموه، وشروط الحذف فيه موجودة، ولا يبعد أن يجوز مجوّز فيها أن تكون مصدرية، فلا يحتاج إلى تقدير ضمير، ويكون يطلق المصدر على المفعول، والأول أسبق إلى الذهن.
{وما ظلمونا} نفي أنهم لم يقع منهم ظلم لله تعالى، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء إمكان وقوعه، لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه ألبتة.
قيل: المعنى وما ظلمونا بقولهم: {أرنا الله جهرة}، بل ظلموا أنفسهم بما قابلناهم به من الصاعقة.
وقيل: وما ظلمونا بادخارهم المن والسلوى، بل ظلموا أنفسهم بفساد طعامهم وتقليص أرزاقهم.
وقيل: وما ظلموانا بإبائهم على موسى أن يدخلوا قرية الجبارين.
وقيل: وما ظلمونا باستحبابهم العذاب وقطعهم مادّة الرزق عنهم، بل ظلموا أنفسهم بذلك.
وقيل: وما ظلمونا بكفر النعم، بل ظلموا أنفسهم بحلول النقم.
وقيل: وما ظلمونا بعبادة العجل، بل ظلموا أنفسهم بقتل بعضهم بعضًا.
واتفق ابن عطية والزمخشري على أنه يقدر محذوف قبل هذه الجملة، فقدره ابن عطية، فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر، قال: والمعنى وما وضعوا فعلهم في موضع مضرّة لنا، ولكن وضعوه في موضع مضرّة لهم حيث لا يجب.
وقدره الزمخشري: فظلموا بأن كفروا هذه النعم، وما ظلمونا، قال: فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وما ظلمونا عليه، انتهى.
ولا يتعين تقدير محذوف، كما زعما، لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلهًا، ومن سؤال رؤية الله على سبيل التعنت، وغير ذلك مما لم يقص هنا.
فجاء قوله تعالى: {وما ظلمونا} جملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا بذلك نقص ولا ضرر، بل وبال ذلك راجع إلى أنفسهم ومختص بهم، لا يصل إلينا منه شيء.
{ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}: لكن هنا وقعت أحسن موقع، لأنه تقدم قبلها نفي وجاء بعدها إيجاب، نحو قوله تعالى: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم}، وكذلك العكس، نحو قوله تعالى: {ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون}، أعني أن يتقدم إيجاب ثم يجيء بعدها نفي، لأن الاستدراك الحاصل بها إنما يكون عليه ما قبلها بوجه مّا، وذلك أنه لما تقرر أنه قد وقع منهم ظلم، فلما نفى ذلك الظلم أن يصل إلى الله تعالى بقيت النفس متشوّفة ومتطلعة إلى ذكر من وقع به الظلم، فاستدرك بأن ذلك الظلم الحاصل منهم إنما كان واقعًا بهم، وأحسن مواقعها أن تكون بين المتضادين، ويليه أن تقع بين النقيضين، ويليه أن تقع بين الخلافين، وفي هذا الأخير خلاف بين النحويين.
أذلك تركيب عربي أم لا؟ وذلك نحو قولك: ما زيد قائم، ولكن هو ضاحك، وقد تكلم على ذلك في علم النحو.
واتفقوا على أنها لا تقع بين المتماثلين نحو: ما خرج زيد ولكن لم يخرج عمرو.
وطباق الكلام أن يثبت ما بعد لكن على سبيل ما نفي قبلها، نحو قوله: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم}، لكن دخلت كانوا هنا مشعرة بأن ذلك من شأنهم ومن طريقتهم، ولأنها أيضًا تكون في كثير من المواضع تستعمل حيث يكون المسند لا ينقطع عن المسند إليه، نحو قوله: {وكان الله بكل شيء عليمًا} فكان المعنى: ولكن لم يزالوا ظالمي أنفسهم بكثرة ما يصدر منهم من المخالفات.
ويظلمون: صورته صورة المضارع، وهو ماض من حيث المعنى، وهذا من المواضع التي يكون فيها المضارع بمعنى الماضي.
ولم يذكره ابن مالك في التسهيل ولا فيما وقفنا عليه من كتبه، وذكر ذلك غيره وقدم معمول الخبر عليه هنا وهو قوله: {أنفسهم}، ليحصل بذلك توافق رؤوس الآي والفواصل، وليدل على الاعتناء بالإخبار عمن حل به الفعل، ولأنه من حيث المعنى صار العامل في المفعول توكيدًا لما يدل عليه ما قبله.
فليس ذكره ضروريًّا، وبأن التوكيد أن يتأخر عن المؤكد، وذلك أنك تقول: ما ضربت زيدًا ولكن ضربت عمرًا، فذكر ضربت الثانية أفادت التأكيد، لأن لكن موضوعها أن يكون ما بعدها منافيًا لما قبلها، ولذلك يجوز أن تقول: ما ضربت زيدًا ولكن عمرًا، فلست مضطرًا لذكر العامل.
فلما كان معنى قوله: {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} في معنى: {ولكن ظلموا أنفسهم}، كان ذكر العامل في المفعول ليس مضطرًا إليه، إذ لو قيل: وما ظلمونا ولكن أنفسهم، لكان كلامًا عربيًا، ويكتفي بدلالة لكن أن ما بعدها مناف لما قبلها، فلما اجتمعت هذه المحسنات لتقديم المفعول كان تقديمه هنا الأفصح.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر قصص بني إسرائيل فصولًا منها: أمر موسى، على نبينا وعليه السلام، إياهم بالتوبة إلى الله من مقارفة هذا الذنب العظيم الذي هو عبادة العجل من دون الله، وأن مثل هذا الذنب العظيم تقبل التوبة منه، والتلطف بهم في ندائهم بيا قوم، وتنبيههم على علة الظلم الذي كان وباله راجعًا عليهم، والإعلام بأن توبتهم بقتل أنفسهم، ثم الإخبار بحصول توبة الله عليهم وأن ذلك كان بسابق رحمته، ثم التوبيخ لهم بسؤالهم ما كان لا ينبغي لهم أن يسألوه، وهو رؤية الله عيانًا، لأنه كان سؤال تعنت.
ثم ذكر ما ترتب على هذا السؤال من أخذ الصاعقة إياهم.
ثم الإنعام عليهم بالبعث، وهو من الخوارق العظيمة أن يحيى الإنسان في الدنيا بعد أن مات.
ثم إسعافهم بما سألوه، إذ وقعوا في التيه، واحتاجوا إلى ما يزيل ضررهم وحاجتهم من لفح الشمس، وتغذية أجسادهم بما يصلح لها، فظلل عليهم الغمام، وهذا من أعظم الأشياء وأكبر المعجزات حيث يسخر العالم العلوي للعالم السفلي على حسب اقتراحه، فكان على ما قيل: تظلهم بالنهار وتذهب بالليل حتى ينوّر عليهم القمر.
وأنزل عليهم المن والسلوى، وهذا من أشرف المأكول، إذ جمع بين الغذاء والدواء، بما في ذلك من الحلاوة التي في المن والدسم الذي في السلوى، وهما مقمعًا الحرارة ومثيرًا القوّة للبدن.
ثم الأمر لهم بتناول ذلك غير مقيد بزمان ولا مكان، بل ذلك أمر مطلق.
ثم التنصيص أن ذلك من الطيبات وبحق ما يكون ذلك من الطيبات.
ثم ذكر أنه رزق منه لهم لم يتعبوا في تحصيله ولا استخراجه ولا تنميته، بل جاء رزقًا مهنأ لا تعب فيه.
ثم أرداف هذه الجمل بالجملة الأخيرة، إذ هي مؤكدة لافتتاح هذه الجمل السابقة، لأنه افتتحها بالإخبار بأنهم ظلموا أنفسهم، وختمها بذلك وهو قوله: {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.
فجاءت هذه الجمل في غاية الفصاحة لفظًا والبلاغة معنى، إذ جمعت الألفاظ المختارة والمعاني الكثيرة متعلقًا أوائل أواخرها بأواخر أوائلها، مع لطف الإخبار عن نفسه.
فحيث ذكر النعم صرح بأن ذلك من عنده، فقال: ثم بعثناكم، وقال: وظللنا وأنزلنا، وحيث ذكر النقم لم ينسبها إليه تعالى فقال: فأخذتكم الصاعقة.
وسر ذلك أنه موضع تعداد للنعم، فناسب نسبة ذلك إليه ليذكرهم آلاءه، ولم ينسب النقم إليه، وإن كانت منه حقيقة، لأن في نسبتها إليه تخويفًا عظيمًا ربما عادل ذلك الفرح بالنعم.
والمقصود: انبساط نفوسهم بذكر ما أنعم الله به عليهم، وإن كان الكلام قد انطوى على ترهيب وترغيب، فالترغيب أغلب عليه. اهـ.